في أعماق الكون الشاسع، خلف ملايين المجرات، يكمن لغز حيّر العلماء لعقود: "الجاذب العظيم" أو Great Attractor. إنه ليس مجرد نجم أو مجرة، بل هو منطقة ضخمة في الفضاء تُحدث تأثيراً جاذباً قوياً على مجرتنا "درب التبانة" ومجموعة من آلاف المجرات الأخرى. فما هو هذا الجاذب؟ وأين يقع؟ ولماذا يُعتبر أحد أكثر ألغاز الكون غموضاً؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذا المقال العلمي الشامل.
أولاً: ما هو الجاذب العظيم؟
الجاذب العظيم هو منطقة غير مرئية تقع في جزء من الكون تُعرف بـ"منطقة التعتيم" (Zone of Avoidance) بسبب كثافة الغبار والنجوم في مجرتنا، ما يجعل من الصعب على التلسكوبات رصده مباشرة.
تُظهر البيانات أن الجاذب العظيم يسحب المجرات باتجاهه بسرعة هائلة تُقدّر بـ 600 كيلومتر في الثانية تقريباً، بما في ذلك مجرتنا. هذا التأثير لا يمكن تفسيره بوجود فراغ فضائي فقط، بل يشير إلى وجود كتلة هائلة غير مرئية تُحدث هذا السحب.
ثانياً: كيف اكتُشف الجاذب العظيم؟
تم اكتشافه في ثمانينيات القرن الماضي عندما لاحظ علماء الفلك، باستخدام بيانات الراديو والضوء تحت الأحمر، أن المجرات القريبة منا لا تتحرك فقط بسبب تمدد الكون، بل يبدو أنها تنحرف عن هذا التمدد وتتجه نحو نقطة معينة في السماء. هذا الاتجاه الموحد أشار إلى وجود جاذب ضخم.
وقد دعمت هذه الفرضية بيانات مهمة من مسوحات مثل:
-
مهمة IRAS لرصد الأشعة تحت الحمراء
-
تلسكوب هابل الفضائي
-
مصفوفة باركس الراديوية في أستراليا
ثالثاً: موقع الجاذب العظيم
يقع الجاذب العظيم في كوكبة قنطورس (Centaurus)، على بعد يقارب 150 إلى 250 مليون سنة ضوئية من الأرض. هذه المسافة الهائلة تُصعب علينا دراسة المنطقة بدقة، خصوصاً أن الغبار النجمي في مجرتنا يمنع الضوء من المرور.
ولهذا السبب، اعتمد العلماء على الموجات الراديوية وأشعة تحت الحمراء لاختراق هذا الحجاب الكوني، لكن حتى اليوم لا يوجد صورة واضحة أو دقيقة له، بل مجرد تقديرات.
رابعاً: هل هو جسم واحد أم مجموعة؟
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الجاذب العظيم ليس جسماً واحداً، بل هو مركز لجذب ضخم ناتج عن مجموعة هائلة من العناقيد المجرية، مثل:
-
عنقود شابلي الفائق (Shapley Supercluster)
-
عنقود نورما (Norma Cluster)
-
عناقيد أبيل المتعددة
وهذه العناقيد معاً تشكّل كتلة ضخمة تُحدث تأثيراً جاذباً كبيراً جداً في الفضاء.
خامساً: العلاقة بين الجاذب العظيم والمجرة
مجرة درب التبانة تتحرك مع مجموعة المجرات المحلية (Local Group) نحو الجاذب العظيم بسرعة تقارب 2 مليون كيلومتر في الساعة. هذا الانجذاب لا يؤثر على مدارات النجوم والكواكب داخل مجرتنا، ولكنه يؤثر على السرعة التي نتحرك بها عبر الكون.
كما أن هذه الحركة قد تلعب دوراً في طريقة تموضع المجرات الأخرى حولنا، وتحديد بنية الكون على المستوى الكبير.
سادساً: هل الجاذب العظيم هو نهاية المطاف؟
في الحقيقة، بعد اكتشاف الجاذب العظيم، ظهرت اكتشافات أعمق وأضخم، مثل:
-
عنقود شابلي الفائق: الذي يُعتبر أكبر وأضخم من الجاذب العظيم، وقد يكون هو المؤثر الحقيقي على حركة مجرتنا.
-
الجدار العظيم (Great Wall): وهو بنية كونية من المجرات تمتد لمئات الملايين من السنين الضوئية.
وهذا يعني أن الجاذب العظيم ليس إلا جزءاً من سلسلة من الجاذبات الضخمة، التي قد تكشف عن شبكة معقّدة من الكتل الهائلة في الكون.
سابعاً: هل هناك علاقة مع المادة المظلمة؟
واحدة من أكبر التحديات هي أن الكتلة اللازمة لتفسير قوة الجاذب العظيم لا يمكن رصدها بصرياً بالكامل، مما يشير إلى وجود كمية هائلة من المادة المظلمة. هذه المادة الغامضة لا تصدر ضوءاً ولا تمتصه، لكنها تؤثر بالجاذبية على الأجسام الأخرى.
ولهذا، يُعتبر الجاذب العظيم دليلاً إضافياً على وجود المادة المظلمة على نطاق واسع جداً.
خاتمة
الجاذب العظيم ليس مجرد نقطة في الفضاء، بل هو أحد المفاتيح لفهم كيفية توزيع الكتلة في الكون، وكيفية حركة المجرات، وأيضاً أحد الأدلة المهمة على وجود قوى غير مرئية مثل المادة المظلمة. وبينما تواصل التلسكوبات الحديثة مثل جيمس ويب وفيستا والرصد الراديوي كشف أسرار هذه المنطقة، يبقى الجاذب العظيم من أكثر المواضيع غموضاً وإثارة في علم الفلك.
الكلمات المفتاحية
الجاذب العظيم، Great Attractor، درب التبانة، مجرات، المادة المظلمة، الانزياح، كوكبة قنطورس، عنقود شابلي، عنقود نورما، علم الفلك، الجدار العظيم، العناقيد المجرية، الحركة الكونية.
المصادر
-
NASA Astrophysics Data System – https://ui.adsabs.harvard.edu
-
ESA – "Exploring the Great Attractor"
-
Space.com – Great Attractor Explained
-
Science.org – Research on Superclusters and Dark Matter
-
Astrophysical Journal – “Large-Scale Flows in the Universe”
